فصل: تفسير الآيات (11- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (8- 10):

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}
{لِلْفُقَرَآءِ} يعني كي لا يكون ما أفاء الله على رسوله دولة بين الاغنياء منكم، ولكن يكون للفقراء {الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك هُمُ الصادقون} في إيمانهم. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذي تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر وخرجوا حباً لله ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما كانت فيهم من شديدة، حتى ذكر لنا أنّ الرجل يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتّخذ الحفرة في الشتاء ماله دثار غيرها.
وروى جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي قالا: كان أناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها ويغزو فنسبهم الله أنّهم فقراء، وجعل لهم سهماً في الزكاة.
{والذين تَبَوَّءُوا}: توطّنوا {الدار} أي اتّخذوا المدينة دار الإيمان والهجرة، وهم الأنصار أسلموا في ديارهم وبنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين فأخر الله عليهم البناء. ونظم الآية: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم وقد آمنوا {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} حزازة وغيظاً وحسداً {مِّمَّآ أُوتُواْ} أي ممّا أعطوا المهاجرين من الفيء. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلاّ ثلاثة نفر كما ذكرناهم، فطابت أنفس الأنصار بذلك. {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ} إخوانِهم من المهاجرين بأموالهم وديارهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}: فاقة وحاجة إلى ما هو يزول؛ وذلك أنّهم قاسموهم ديارهم وأموالهم.
وأخبرنا أبو محمّد الحسن بن أحمد بن محمّد السيستاني قال: حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن إبراهيم الثقفي قال: أخبرنا محمود بن خداش وسمعته يقول: ما أخذت شيئاً أشتري قط قال: حدّثنا محمّد بن الحسن السيستاني قال: حدّثنا الفضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أصابه الجهد فقال: يا رسول الله، إني جائع فأطعمني. فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه السلام إلى أزواجه: «هل عندكنّ شيء؟». فكلّهنّ قلن: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً ما عندنا إلاّ الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عند رسول الله ما يطعمك هذه الليلة». ثم قال: «من يضف هذا هذه الليلة يرحمه الله».
فقام رجل من الأنصار قال: أنا يا رسول الله. فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرميه ولا تدّخري عنه شيئاً. فقالت: ما عندنا إلاّ قوت الصبية. قال: قومي فعلّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئاً، ثم أسرجي فأبرزي، فاذا أخذ الضيف ليأكل قومي كأنّك تصلحين السراج فأطفئيه وتعالي نمضغ ألسنتنا لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشبع ضيف رسول الله. قال: فقامت إلى الصبية فعللتهم حتى ناموا عن قوتهم ولم يطعموا شيئاً، ثم قامت فأبرزت وأسرجت فلمّا أخذ الضيف ليأكل قامت كأنّها تصلح السراج فأطفأته، وجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله عليه السلام فظنّ الضيف أنّهما يأكلان معه، حتى شبع ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وباتا طاويين. فلمّا أصبحا عَدوا إلى رسول الله عليه السلام، فلمّا نظر إليهما تبسّم ثم قال: «لقد عجب الله من فلان وفلانة هذه الليلة» فأنزل الله سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الآية.
قال أنس بن مالك: أُهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوي وكان مجهوداً، فوجّهه إلى جار له فتناوله تسعة أنفس ثم عاد إلى الأوّل، فأنزل الله سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
ويحكى عن أبي الحسن الأنطاكي أنّه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية بقرب الري ولهم أرغفة معدودة لم تسع جميعهم ونشروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام، فلمّا رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل واحد منهم إيثاراً لصاحبه.
ويحكى عن حذيفة العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك لطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيقه ومسحت وجهه، فإذا أنا به، قلت: أسقيك؟ فأشار أي نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي أن انطلق به إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر قال: آه، فأشار هشام أن انطلق به إليه، فجئته فإذا هو قدمات، ثم رجعت إلى هشام فإذا هو قدمات، ثم رجعت إلى ابن عمي فإذا قد مات رحمه الله.
سمعت أبا القاسم الحسن بن محمّد النيسابوري قول: سمعت أبا عبد الله محمّد بن عبيد الله الجرجاني يقول: سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يحكي عن أبي يزيد البسطامي قال: ما غلبني أحد مثل ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجّاً، فقال لي: يا أبا يزيد، ما حدّ الزهد عندكم؟ قلت: إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا. فقال هكذا عندنا كلاب بلخ. فقلت: ماحدّ الزهد عندكم؟ فقال: إذا فقدنا صبرنا، وإذا وجدنا آثرنا.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا محمّد أحمد بن محمّد بن إبراهيم البلاذري يقول: سمعت بكر بن عبد الرحمن يقول: سئل ذو النون المصري عن علامة الزاهد المشروح صدره فقال: ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت.
قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه سلم يوم النضير للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة».
فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها فأنزل الله سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} والشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل، يقال: فلان شحيح من الشُّح والشِّحّ والشحّة والشحاحة، قال عمرو بن كلثوم:
ترى اللحز الشحيح إذا أمرّت ** عليه لماله فيها مهينا

وفرّق العلماء من السلف بينهما.
فأخبرني الحسن بن محمّد قال: حدّثنا موسى بن محمّد بن علي قال: حدّثنا إدريس بن عبد الكريم الحدّاد قال: حدّثنا عاصم بن علي بن عاصم، وأخبرنا عبد الخالق قال: حدّثنا ابن حبيب قال: حدّثنا ابن شاكر قال: حدّثنا عاصم بن علي قال: حدّثنا المعادي، عن جامع بن شداد، عن أبي الشعثاء قال:
قال رجل لعبد الله بن مسعود: يا أبا عبد الرحمن، إني أخاف أن أكون قد هلكت. قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله سبحانه يقول: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديّ شيء. فقال: ليس ذاك الشحّ الذي ذكر الله سبحانه في القرآن، ولكن الشحّ أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل.
الوالبي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} قال: يقول: هوى نفسه يتبع هواه فلم يقبل الإيمان.
وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً لشيء نهاه الله سبحانه ولم يدعه الشحّ إلى أن يمنع شيئاً من شيء أمره الله تعالى به فقد وقاه شحّ نفسه.
وقال طاووس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه، والشحّ أن يبخل بما في أيدي الناس.
وأخبرني أبي قال: أخبرنا محمّد بن أحمد بن عبد الله النحوي قال: أخبرنا محمّد بن حمدون ابن خالد قال: حدّثنا محمّد بن عبد الوهاب بن أبي تمام العسقلاني قال: حدّثنا سليمان ابن بنت شراحيل قال: حدّثنا إسماعيل بن عبّاس قال: حدّثنا عمارة بن عديّة الأنصاري، عن عمّه عمر بن جارية، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «برئ من الشحّ من أدّى الزكاة، وقرى الضيف وأعطى في النائبة».
أخبرني أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن عليّ بن عبد الله ابن محمّد الطائي قال: حدّثنا عبد الله بن زيد قال: حدّثنا إبراهيم بن العلاء قال: حدّثنا إسماعيل بن عباس عن هشام بن الغاد عن أبان عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: «اللهم إنيّ أعوذ بك من شحّ نفسي وإسرافها ووسواسها».
وأخبرنا أبو عبد الله قال: حدّثنا هارون بن محمّد بن هارون قال: أخبرنا عبد الله بن محمّد بن سنان قال: حدّثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال: حدّثنا داود بن قيس الفرّاء، عن عبد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الشحّ؛ فانّ الشحّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم».
وروى سعيد بن جبير، عن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: اللهم قني شحّ نفسي. لا يزيد على ذلك. فقلت له فيه، فقال: إنّي اذا وقيت شحّ نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أفعل. وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف.
ويحكى أنّ كسرى قال لاصحابه: أي شيء أضرّ بابن آدم؟ قالوا: الفقر. فقال كسرى: الشحّ أضرّ من الفقر؛ لأنّ الفقير اذا وجد اتّسع، والشحيح لا يتسع أبداً.
{والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.
قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: الفقراء المهاجرون، والذين تبوّأوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجهد ألاّ تكون خارجاً من هذه المنازل.
أخبرني الحسن قال: حدّثنا علي بن إبراهيم الموصلي قال: حدّثنا محمّد بن مخلد الدوري قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل الحساني قال: حدّثني أبو يحيى الحماني، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عيينة، عن مقسم، عن ابن عباس قال: أمر الله سبحانه بالاستغفار لأصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنهم سيفتنون.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمّد بن عبد الله ابن سليمان قال: حدّثنا ابن نمير قال: حدّثنا أبي، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الملك بن عمير، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنه قالت: أُمرتم بالاستغفار لأصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم فسببتموهم، سمعت نبيّكم صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تذهب هذه الأُمّة حتى يلعن آخرها أوّلها».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا الحسن بن علي الطوسي قال: حدّثنا محمّد بن المؤمّل بن الصباح البصري قال: حدّثنا النصر بن حماد العتكي قال: حدّثنا سيف ابن عمر الأسدي قال: حدّثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الذين يسبّون أصحابي فقولوا: لعن الله شركم».
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا ابن النعمان قال: حدّثنا هارون بن سليمان قال: حدّثنا عبد الله يعني ابن داود قال: حدّثنا كثير بن مروان الشامي، عن عبد الله بن يزيد الدمشقي قال: أتيت الحسن فذكر كلاماً إلاّ إنّه قال: أدركت ثلاثمائة من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم منهم سبعون بدرياً كلّهم يحدّثونني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه».
فالجماعة ألاّ تسبّوا الصحابة، ولا تماروا في دين الله، ولا تكفّروا أحداً من أهل التوحيد بذنب قال عبد الله بن زيد: فلقيت أبا أمامة وأبا الدرداء وواثلة وأنس بن مالك، وكلّهم يحدّثونني بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الجماعة.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا أبو الفضل صالح بن الأصبغ التنوخي قال: حدّثنا أبو الفضل الربيع بن محمّد بن عيسى الكندي قال: حدّثنا سعيد بن منصور قال: حدّثنا شهاب بن حراش، عن عمّه العوّام بن حوشب، قال: أدركت من أدركت من صدر هذه الأمّة وهم يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تأتلف عليهم القلوب ولا تذكروا ما شجر بينهم فتحرشوا الناس عليهم.
وسمعت عبد الله بن حامد يقول: سمعت محمّد بن محمّد بن الحسن قال: سمعت أبا عبد الله محمّد بن القاسم الجمحي المكّي قال: سمعت محمّد بن سعدان المروزي قال: سمعت أحمد بن إسماعيل المروزي، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول، عن أبيه قال: قال عامر بن شراحيل الشعبي: يا مالك، تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود: من خير أهل ملّتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: حواريّو عيسى. وسئلت الرافضة: من شرّ أهل ملّتكم فقالوا: أصحاب محمّد، أُمروا بالاستغفار إليهم فسبوّهم؛ فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية ولا تثبت لهم قدم، ولا تجمع لهم كلمة، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم، وإدحَاض حجّتهم، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلّة.
وأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمّد المعدل قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن يونس المقري قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن سالم قال: حدّثنا سوار بن عبد الله القاضي قال: حدّثنا أبي قال: قال مالك بن أنس: من ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه عليهم غلّ، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} حتى أتى على هذه الآية، ثم قرأ {لِلْفُقَرَآءِ} حتى أتى على هذه الآية، ثم قال: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} حتى أتى على هذه الآية ثم قال: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} إلى قوله: {رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} فمن ينتقصهم أو كان في قلبه عليهم غلّ فليس له من الفيء حقّ.

.تفسير الآيات (11- 24):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ}، أي أظهروا خلاف ما أضمروا، وهو مأخوذ من نافقاء اليربوع وهي أخذ جحرته، إذا أُخذ عليه جحر أخذ من جحر آخر، فيقال عند ذلك: نفق ونافق، فشبه فعل المنافق بفعل اليربوع؛ لأنه يدخل من باب ويخرج من باب، فكذلك المنافق يدخل في الإسلام باللفظ ويخرج منه بالعقد. والنفاق لفظ إسلامي لم يكن يعرفه العرب قبل الإسلام.
{يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} وهم بنو قريظة والنضير {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} من دياركم {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً} سألنا خذلانكم وخلافكم {أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ * لأَنتُمْ} يا معشر المؤمنين {أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ الله} يقول: يرهبونكم أشدّ من رهبتهم من الله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ} يعني اليهود {جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ}، ولا يبرزون لكم بالقتال {أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ}.
قرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وابو عمرو: {جدار} بالألف على الواحد.
وروي عن بعض أهل مكّة: {جَدْر} بفتح الجيم وجزم الدال وهي لغة في الجدار.
وقرأ يحيى بن وثاب {جُدْر}، بضم الجيم وسكون الدال.
وقرأ الباقون بضمّهما.
{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} يعني: بعضهم فظّ على بعض وبعضهم عدوّ لبعض، وعداوتهم بعضهم بعضاً شديدة.
وقيل: بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديدة، فإذا خرجوا لكم فهم أجبن خلق الله سبحانه.
{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى} متفرقة مختلفة. قال قتادة: أهل الباطل مختلفة أهواؤهم، مختلفة شهاداتهم مختلفة أعمالهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق، وقال مجاهد: أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني مثل هؤلاء كمثل الذين من قبلهم وهم مشركو مكة. {قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} يوم بدر قاله مجاهد، وقال ابن عباس: كمثل الذين من قبلهم يعني بني قينقاع. وقيل: مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سَنتان، فربما ذاقوا وبال أمرهم الجلاء والنفي. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود في تخاذلهم فقال عزّ من قائل: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر} الآية.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا الباقرحي قال: حدّثنا الحسن بن علوُية قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا إسحاق بن بشر قال: حدّثنا مقاتل عن عطاء عن ابن عباس وعبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن عباس في قوله سبحانه: {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ} الآية قال: كان راهب في الفترة يُقال له بَرصيصَا وكان قد تعبّد في صومعة لهُ سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل، فلم يستطيع له شيء فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال: ألا أحدٌ منكم يكفيني أمر بَرصيصا، فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء وهو الذي يتصدى للنبي صلى الله عليه وسلم وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوسُ إليه على وجهِ الوحي فجاءه جبرائيل حتى دخل بينهما فدفعه بيده دفعة هينةً فوقع من دفعة جبرائيل إلى أقصى أرض الهند، فذلك قوله سبحانه: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 20].
فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك فانطلق فتزيّن بزينة الرهبان وحلق وسط رأسِهِ ثم مضى حتى أتى صومعة بَرصيصا فناداه فلم يجبه برصيصا وكان لا ينفتل عن صلاته إلاّ في كل عشرة أيام ولا يفطر إلاّ في عشرة أيام مرّة، فكان يواصل الأيام العشرة والعشرين والأكثر، فلما رأى الأبيض أنَّه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعتهِ فلما أنفتر برصيصا اطّلع من صومعته ورأى الأبيض قائماً مُنتصباً يُصلّي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لها عنه فلم يجبه، فقال له: إنّك ناديتني وكنت مُشتغلا عنك فحاجتك؟ قال: حاجتي أني أحببت أن أكون معك فأنادبك وأقتبس من علمك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك قال: برصيصا: إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمناً فإن الله سبحانه سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين والمؤمنات نصيباً إن استجاب لي، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، وأقبل الأبيض يُصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوماً بعدها، فلمّا انفتل رآه قائماً يصلي، فلمّا رآى برصيصا شدّة اجتهاده وكثرة تضرّعه وابتهاله إلى الله سبحانه كلّمه وقال له: حاجتك؟
قال: حاجتي أن تأذن لي فارتفع إليك، فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام الأبيض معه حولا يتعبد لا يفطر إلاّ في كل أربعين يوماً ولا ينفتل عن صلاته إلاّ في كل أربعين يوماً مرّة وربّما مدَّ إلى الثمانين، فلما رأى برصيصا أجتهاده تفاطرت إليه نفسه فأعجبه شأن الأبيض، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق فأنَّ لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشدّ اجتهاداً ممّا أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت، قال: فدخل على برصيصا من ذلك أمر شديد وكره مفارفته للّذي رأى من شدّة اجتهاده، فلما ودّعه قال له الأبيض: إنَّ عندي دعوات أعلّمكها أياك تدعو بهن فهي خير مما أنت فيه، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلى والمجنون، قال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إنْ علم بهذا الناس شغلوني عن العبادة، فلم يزل به الأبيض حتى علّمه، ثم انطلق حتى أتى أبليس فقال له: قد والله أهلكتُ الرجل، قال: فانطلق الأبيض فتعرّض لرجل فخنقه ثم جاءه في صورة رجل متطبّب فقال لأهله: إنَّ بصاحبكم جنوناً فأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إني لا أقوى على جنِّيَته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله عزّ وجلّ فيعافى، فقالوا له: دلّنا، فانطلقوا إلى برصيصا فإنَّ عنده أسم الله الذي إذا دعى به أجاب، قال: فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنهُ الشيطان، وكان يفعل الأبيض بالناس مثل، من مكانك قال: وما هي؟ قال: تسجد لي، قال: أفعل، فسجد له، فقال: يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربّك فلما كفر قال: {إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} يقول الله سبحانه: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ} يعني الشيطان وذلك الإنسان {أَنَّهُمَا فِي النار خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين}.
قال ابن عباس: فضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة، وذلك أن الله سبحانه أمر نبيّه عليه السلام أن يخلي بني النضير عن المدينة، فدسّ المنافقون إليهم، فقالوا: لا تجيبوا محمداً إلى مادعاكم ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم كنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم. قال: فأطاعوهم فدربوا على حصونهم وتحصّنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين حتى جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فناصبوه الحرب يرجون نصر المنافقين فخذلوهم وتبرّؤوا منهم كما تبرّأ الشيطان من برصيصا وخذله.
قال ابن عباس: فكانت الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلاّ بالتقية والكتمان وطمع اهل الفجور والفسق في الاحبار فرموهم بالبهتان والقبيح، حتى كان أمر جريج الراهب، فلمّا برّأ الله جريجاً الراهب مما رموه به فانبسطت بعدها الرهبان وظهروا للناس.
{ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله} باداء فرائضه واجتناب معاصيه {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} يعني يوم القيامة {واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله} أي نسوا حق الله وتركوا أمره {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} يعني حظ أنفسهم أن يقدّموا لها خيراً {أولئك هُمُ الفاسقون * لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون * لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ} وركبّنا فيه العقل {لَّرَأَيْتَهُ} في صلابته ورزانته {خَاشِعاً} ذليلا خاضعاً {مُّتَصَدِّعاً} يعني متشققاً {مِّنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب} وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموه {والشهادة} وهي ماعلموه وشاهدوه، وقال الحسن: يعني السرّ والعلانية.
{هُوَ الرحمن الرحيم * هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك} وهو ذو الملك وقيل: القادر على اختراع الأعيان {القدوس} الظاهر من كل عيب المنزه عما لايليق به.
قال قتادة: المبارك، وقال ابن كيسان: الممجّد وهو بالسريانية قديشا.
{السلام المؤمن} قال بعضهم: المصدّق لرسله باظهار معجزاته عليهم، ومصدّق للمؤمنين ما وعدهم من الثواب وقابل إيمانهم، ومصدق للكافرين ما أوعدهم من العقاب.
قال ابن عباس ومقاتل: هو الذي آمن الناس من ظلمه وآمن من آمن به من عذابه من الإيمان الذي هو هذا التخويف كما قال: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4].
وقال النابغة:
والمؤمن العائذات الطير يمسحها ** ركبان مكة بين الغيل والسند

وقال ابن زيد: هو الذي يصدّق المؤمنين إذا وحّدُوه، وقال الحسين بن الفضل: هو الداعي إلى الإيمان والآمر به والموجب لأهله اسمه. القرظي: هو المجير كما قال: {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]. {المهيمن} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: الشهيد. ضحاك: الأمين. ابن زيد: المصدّق. ابن كيسان: هو اسم من أسماء الله في الكتب، الله أعلم بتأويله. عطا: المأمون على خلقه. الخليل: هو الرقيب. يمان: هو المطّلع. سعيد بن المسيب: القاضي. المبرد: المهيمن في معنى مؤيمن إلاّ أن الهاء بدل من الهمزة.
قال أبو عبيدة: هي خمسة أحرف في كلام العرب على هذا الوزن: المهيمن والمسيطر والمبيطر والمنيقر وهو الذاهب في الأرض، والمخيمر اسم جبل.
{العزيز الجبار} قال ابن عباس: هو العظيم، وجبروت الله عظمته، وهو على هذا القول صفة ذات، وقيل: هو من الجبر وهو الإصلاح، يقال: جبرت العظم إذا أصلحته بعد كسر، وجبرت الأمر، والجبر وجبرته فجبر تكون لازماً ومتعدياً قال العجاج:
قد جبر الدين الإله فجبر

ونظيره في كلام العرب: دلع لسانه فدلع، وفغر فاه ففغر، وعمّر الدار فعمرت، وقال السدي: هو الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما اراد.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، قال: حدّثنا محمد بن بكار بن الريان. قال حدّثنا أبو معشر عن محمد بن كعب قال: إنما يسمّى الجبار، لأ نَّه جبر الخلق على ما أراد والخلق أرق شأناً من أن يعصوا له أمراً بل طرفة عين إلاّ بما أراد، وسُئل بعض الحكماء عن معنى الجبّار فقال: هو القهّار الذي إذا أراد أمراً فعله وحكم فيه بما يريد لا يحجزه عنه حاجز ولا يفكّر فيمن دُونه. إن آدم أجتبي من غير طاعة وإن أبليس لعن على كثرة الطاعة، وقيل: هو الذي لا تناله الأيدي، من قول العرب: نخلة جبّارة، إذا طالت وفاتت الأيدي قال الشاعر:
سوامق جبار أثيث فروُعه ** وعالين قنواناً من البسر أحمرا

{المتكبر} عن كل سوء، المتعظّم عمّا لا يليق به، وأصل الكبر والكبرياء: الأمتناع وقلة الإنقياد، قال حميد بن ثور: عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت بها كبرياء الصعب وهي ذلول {الخالق} المقدّر المقلّب للشي بالتدبير إلى غيره كما قال: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] وقال: {خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح: 14] المنشيء للأعيان من العدم إلى الوجود {المصور} الممثل للمخلوقات والعلامات المميّزة والهيئات المتفرّقة حتى يتميّز بها بعضها من بعض يقال: هذه صورة الأمر أي مثاله، فأولا يكون خلقاً ثم {نطفة ثمّ علقة} ثم تصويراً إذا انتهى وكمل، والله أعلم.
{لَهُ الأسمآء الحسنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم}.
أخبرنا أحمد بن محمد بن يعقوب الفقيه بالقصر قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ببغداد قال: حدّثنا الحسن بن عرفة قال: حدّثنا محمد بن صالح الواسطي عن سليمان ابن محمد عن عمر بن نافع عن أبيه قال: قال عبد الله بن عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على هذا المنبر يعني منبر رسول صلى الله عليه وسلم وهو يحكي عن ربّه سبحانه فقال: «إنَّ الله تعالى إذا كان يوم القيامة جمع السموات والأرضين السبع في قبضته تبارك وتعالى ثم قال هكذا وشدّ قبضته ثم بسطها ثم يقولُ: أنا الله أنا الرحمن أنا الرحيم أنا الملك أنا القدّوس أنا السلام أنا المؤمن أنا المهيمن أنا العزيز أنا الجبّار أنا المتكبّر أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئاً، أنا الذي أعدتها أين الملوك أين الجبابرة».
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن وهب قال: حدّثنا محمد بن يونس الكريمي قال: حدّثنا عمرو بن عاصم قال حدثنا أبو الأشهب عن يزيد بن آبان عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ آخر سورة الحشر غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا ابن وهب قال: حدثنا أحمد بن أبي سريح وأحمد بن منصور الرمادي قالا: حدّثنا أبو أحمد الزبيدي قال: حدّثنا خالد بن سليمان قال: حدّثني نافع عن أبي نافع عن معقل بن يسار أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكّل الله به سبعين ألف ملك يُصلّون عليه حتى يمسي، فأن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قال حين يمسي كان بتلك المنزلة».
وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا عبد الله بن محمد قال: حدّثنا السماح قال: حدّثنا أحمد بن الفرح قال: حدّثنا أبو عثمان يعني المؤذن قال: حدّثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا أمامة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ خواتيم الحشر من ليل أو نهار فقبض في ذلك اليوم أو الليلة فقد أوجب الجنة».
وأخبرني ابن القاسم قال حدّثنا ابن بختيار قال: حدثنا مكي بن عيدان قال: حدّثنا إبراهيم ابن عبد الله قال: حدّثنا عمرو بن عاصم قال: حدّثنا أبو الأشهب قال: حدّثنا يزيد الرقاسي عن أنس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ آخر سورة الحشر: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل إلى آخرها فمات من ليلته مات شهيداً».
وأخبرني أبو عثمان بن أبي بكر الحبري قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد الحجاجي قال: أخبرنا عبد الله بن أبان بن شداد أن إسماعيل بن محمد الحبريني حدّثهم قال: حدثنا علي بن زريق قال: حدثنا هشام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال: «عليك بأخر سورة الحشر فأكثر قراءتها، فاعدت عليه فعاد عليّ، فأعدت عليه فعاد عليّ».